من إحدى القضايا الأخرى التي واجهناها عام 1904 كانت قضية النبيل الفرنسي آليك بارغون ، و ما جعلني أسرد لكم قصة هذه القضية هو تحليل صديقي لها حيث أنه لو استلمها أي محقق آخر لما نجح في حل ملابسات القضية .. في الثلاثين من يونيو حيث كانت الشمس ساطعة كنتُ أنا و صديقي جالسين في مسكننا بشارع وول ستريت أقوم بحساب كم من المال سأجني لو قررت الاستفادة من شهادتي في الفلسفة و إعطاء دروس لبعض الشباب فيها بينما كان هوروود مشغولاً بتجربة التبغ الجديد الذي اشتراه و جلس يدخنه ثم أخذ جريدة اليوم من على المنضدة و بدأ يقلب في صفحاتها حتى توقف عند مقال شد انتباهه و بدأ يقرأه بصوتٍ عالٍ : " النبيل الفرنسي آليك بارغون .. أو كما يسمونه البعض ' الاقطاعي ' رجل ثري أصله من فرنسا يعيش في سان فرانسسكو يملك مزرعة تبلغ مساحتها 1093 ياردة ، لديه ما يقارب العشرين عاملاً في أرضه و قد قدم العديد من العمال شكوى ضده حيث أنه لا يدفع لهم أجر عملهم كما أنه عُرف بسوء المعاملة و الفظاظة .. لقد قام هذا الصباح بضرب أحد عماله بالسوط على رأسه و تسبب له بجروح خطرة حيث قدم العامل شكوى ضد سيده لكن لم يصدر أي صوت من طرف الشرطة ، هل هذا لأنه أحد النبلاء ! و لا يطبق عليه القانون ! "

" ما رأيك بهذا يا أديسون ؟ عدم تطبيق القانون عليهم لمجرد أنهم أغنياء شيء مؤسف بالفعل . "

" نعم مؤسف ، و لكن هذه القضية ليست من شأننا يا هوروود فنحن اختصاص جرائم . "

تنهد صديقي تنهيدة طويلة و ألقى بالجريدة على المنضدة و أسند رأسه على المقعد و أغلق عيناه ثم قال : " كم أتمنى أن اتدخل في هذه القصة ، لو أن ذاك الرجل المسكين جائني لاستلمت القضية .. سأطلب من المفتش روكي إجازة أسبوع ما و نذهب إلى سان فرانسيسكو لنتعرف على هذا المدعو بآليك . " و قام صديقي يكتب برقية إلى المفتش روكي يطلب فيها إجازة عن العمل لمدة ثلاثة عشر يوماً .. و بعد ساعة من إرسال صديقي البرقية جاءت برقية من المفتش تسمح لكلانا بالإجازة و كنا قد أعددنا حقيبة السفر و مسدساتنا و هممنا إلى سان فرانسيسكو و في غضون ثلاثة و أربعين ساعة كنا في تلك المدينة الجميلة الصاخبة سان فرانسيسكو و كان ذاك النبيل المدعو بآليك يقطن في الشارع الرابع و العشرين حيث كان يعيش في قصر ضخم قام بشراءه من الكولونيل فيودور بلانسي .. كان جميع عاملوا المزرعة يخافون منه و يهابونه رغم أنه لا يملك أعواناً أو حراساً و هذا ما أثار حيرتي حيث أنه كان يبطش الذين يعملون لديه و لا يقومون بالرد على ضربه لهم بالسوط ، توجهتُ أنا و صديقي هوروود اليه في مزرعته حيث كان يقف بين الأشجار ، كان رجل بدين ذو شارب ضخم متصل بشعر ذقنه أما بقية لحيته فكانت حليقة و كان لديه عينان زرقاوتان و على يده اليمنى وشم ذئب و يحمل بها سوطه ، و يرتدي قميصاً أحمر اللون و بنطال أسود .. و عندما أصبحنا قبالته أدار وجهه المتجهم إلينا

و قال : " أهلاً بكما ، هل تريدان العمل في مزرعتي أيها الشابان ؟ "

" كلا ، انا المحقق ستيف هوروود من مدينة نيويورك .. و هذا صديقي المحقق جاك أديسون . "

بدا على هذا السيد التوتر الشديد و القلق فور سماعه كلمة محقق و كان يحاول إخفاء السوط من يده تدريجياً بوضع يده خلف ظهره ثم قال بتوتر : " أ-أهلا بكما ! ، لقد سمعت عنك كثيراً سيد هوروود لكن في الحقيقة لم أتعرف عليك فوراً فهذه أول مرة أراك بها .. أخبرني هل هناك خطبٌ ما ؟ "

" لقد سمعتُ أنك تعامل الذين يعملون في مزرعتك بسوء و تقوم أحياناً بضربهم بالسوط و تعامل جيرانك أيضاً معاملة سيئة . "

" تفضلوا إلى قصري لنتحدث هناك سيد هوروود . "

و قادنا النبيل إلى قصره الكبير ربما كان يتكون من اثنان و عشرون غرفة أو أكثر و كان كثير الدهاليز ، استضافنا في مكتبه و بدأ يتحدث هو و صديقي حول سوء معاملته للناس و حاول صديقي إقناعه بأن يحسن معاملته مع الناس لكن كان هذا دون جدوى ، خرجتُ أنا و صديقي من قصره متوجهين إلى مسكن نقطن به الليلة لنرى ماذا نفعل بالغد ، كان السيد آليك قد أصر علينا بأن نمكث في قصره لكن صديقي هوروود رفض ذلك بطريقة لطيفة لأنه في الحقيقة كان منزعجاً من عناد ذاك الرجل .. و أثناء سيرنا في الشارع كان قد أوقفنا رجل ضعيف البنية يرتدي نظارات دائرية و طقم أبيض اللون و كان متسخاً بدرجة كبيرة ..

" هل يمكنني استضافتكم في منزلي الليلة ؟ لقد سمعت عنكما اسمكم يذكر كثيراً هنا في سان فرانسيسكو يا سيداي . "

" من أنت ؟ "

" أنا اسمي سيمون جريجور ، في الحقيقة أنا مالك هذه المزرعة التي بين يدي ذاك الرجل المغرور يا سيد هوروود . "

رفع صديقي حاجباه مستغرباً مما سمعه و بدا عليه الفضول ليعرف تفاصيل قصة هذا السيد الذي لا تدل ملابسه إلا انه سوى متسول لا أكثر ، و وافق هوروود على دعوة السيد سيمون و قد قادنا إلى منزله ، ربما كان منزله يدل على أنه ميسور الحال قليلاً حيث أنه كان عبارة عن غرفة جلوس مفتوحٌ عليها المطبخ و غرفة نوم و حمام و غرفة صغيرة كان قد اتخذها مكتباً .. عرفنا السيد جريجور عن نفسه أكثر عندما دخلنا مكتبه حيث أنه أستاذ رياضيات و له العديد من الأبحاث و الدراسات و بدأ يحدثنا عن قصته أكثر .. " هذا المنزل ملكي أنا كما أن المزرعة و ذلك القصر الضخم أيضاً ملكي أنا ، قبل سبعُ سنوات جائني ذاك الغر المدعو بآليك هارباً من الحرب العثمانية اليونانية ، قد تستغرب من هذا سيد هوروود لأنه حسبما تعلم أنه نبيلٌ فرنسي و لكن حقيقة الأمر أن آليك جندي يوناني هرب أثناء تلك الحرب و جاء إلى سان فرانسيسكو كان لا يملك شيئاً يحويه من برد الشوارع فعطفتُ عليه و أسكنته في هذا المنزل الصغير و أمنتُ له عملاً في مزرعتي و مكث خمسة شهور يعيش هنا و يكسب رزقه مني و بعد مرور خمسة شهور قال أنه يريد السفر إلى فرنسا بعد أن قرأ اعلان بإحدى الجرائد عن تعليم مجاني هناك و بالفعل سافر إلى فرنسا و مكث سنة هناك ثم عاد إلى سان فرانسيسكو لم أفهم ما حدث خلال تلك السنة و ماذا تغير ! فقد بدأت بالافلاس و لم يبقى لدي مال أدفعه للعاملين لدي لم أعرف ماذا أفعل ، جائني آليك و قال لي بأنني سأسجن إن استمر الوضع هكذا و لم أدفع أجور العاملين فاقترح علي أن أبيعه المزرعة و القصر و في الحقيقة اضطررت إلى ذلك فقد كان العاملين يطالبون بأجورهم و قالوا لي بأنهم سيذهبون للشرطة خلال يومان إن لم يستلموا أجورهم ، اللغز ليس هنا سيد هوروود ما يحيرني هو كيف أصبح لدى آليك المال و كيف أصبح نبيلاً ! "

" و أنا أيضاً أصبح لدي الفضول لأعرف المزيد عن القصة في الحقيقة إنها مثيرة للاهتمام ! "

نظر السيد جريجور إلى ساعته و قال : " آسف لقد تأخر الوقت و لابد أنكما متعبان سأترككما ترتاحان ، اعذراني المكتب ضيق و لا يوجد به سوى هاتان الأريكتان و لكنني اردت استضافتكما لأشرح لكما قصة ذاك الرجل و همي لكم . "

قال السيد جريجور هذا و فتح باب المكتب ليخرج و إذ بنا نسمع صوت رصاصة قريبة من محيطنا ، ارتعد ذاك الرجل و تصلب مكانه بينما نهضتُ أنا و هوروود و قد حمل كلٌ منا سلاحه ، قال جريجور : " يبدو أن الصوت جاء من ناح القصر ! " و توجهنا جميعا إلى القصر الضخم و طرقنا الباب حيث فتحت لنا إحدى خادمات القصر و هي تبكي و تشير لنا في الطابق العلوي ، كان هناك عدة خدم أمام باب مكتب ذاك النبيل يطرقون عليه و لكن دون جدوى ، فقمت أنا و صديقي بكسر الباب لنجد الرجل غارقاً بدمه و النافذة مكسورة .. نعم لقد كانت إصابة في مؤخرة رأسه و كان هناك عدة ملفات على المكتب قد أتلفت بسبب الدماء الكثيرة التي جاءت عليها

" لن يختلف على هذا اثنان .. إنها إصابة من بندقية قناص و لكن أظن بأن هذا القناص ليس مهاراً إلى حد ما ! "

" كيف عرفت ذلك ! "

" انظر يا أديسون من المفترض أن تكون الإصابة في منتصف مؤخرة رأسه تماماً لكن الرصاصة انحرفت حتى سببت له جرحاً كبيراً ثم استقرت في الجانب الأيسر من رأسه و هذا له تفسيرٌ واحد من وجهة نظري و هو أن القناص يستخدم عينه اليسرى في القنص و بهذا لن تكون الإصابة دقيقة إطلاقاً لأن القنص من العين اليسرى صعبٌ جداً و لا أحد يستطيع القنص بها الإ اذا كان فاقد عينه اليمنى ! "

" رائع ! هذا صحيح ، إن القنص بالعين اليسرى صعب و لن تكون الأهداف دقيقة .. إذن المجرم الذي نبحث عنه فاقد لعينه اليمنى ! "

" هذا ما يجب يا أديسون .. سيد جريجور اتصل برجال الشرطة من فضلك ، هيا أديسون دعنا نرى جميع الخدم في هذا القصر ، قم بإستدعاءهم إلى غرفة الجلوس في الطابق السفلي من فضلك . "

و اجتمعنا بالخدم في غرفة الجلوس ثلاثة رجال و امرأتان في الحقيقة كان وضع النبيل آليك و حياته و خدمه و قصره غريب جداً حيث كانتا الخادمتان أصمتان و أحد الخدم الرجال أبكم و الآخر أصم أيضاً أما الخادم الأخير كان رجل مسن مصاب بالزهايمر و ينسى ما يحدث من حوله و لم نكن لنستفد شيئاً منهم و لابد أنه كان هناك مغزى من اختيار ذاك الرجل لهؤلاء الخدم بهذه الصفات ..

" ما رأيك بهذا هوروود ؟ "

" إن كانت نظريتي صحيحة فسنستبعد العاملين لديه في المزرعة لأنه لا أحد منهم فاقد لعينه اليمنى و هذا يعني أن القاتل لم يقتل النبيل آليك بسبب سوء معاملته ، أظن المسألة متعلقة بالقصة التي قالها لنا السيد جريجور . "

" لا أظن أن السيد جريجور أرسل أحداً لقتل آليك ..."

" ليس هذا ما قصدته يا أديسون ، لابد أن سفر آليك إلى فرنسا و عودته بمال وفير له علاقة بالأمر . "

" هوروود ! ألم يخطر بعقلك ذاك الاسم اطلاقاً ! "

" هل تقصد ابيفورت بارنابي ؟ في الحقيقة لا يخطر على عقلي سواه . "

" نعم هو .. إنه أخطر مجرم في نيويورك و فاقد لعينه اليمنى و تميزت ضحاياه بمثل هذه الجروح ، جروح مشوهة و ذلك بسبب انحراف البندقية معه لأنه يصوب من خلال عينه اليسرى . "

" ابيفورت بارنابي ، فقد عينه اليمنى خلال الحرب الفرنسية البروسية ، هل تعتقد بأن هناك رابطاً بينه و بين آليك !؟ "

" لا أظن ، آليك ادعى أنه فرنسي بعد حصوله على الجنسية الفرنسية و ابيفورت رجل يقطن في نيويورك و لو كان هناك ثأراً منذ وقت طويل لكان آليك ميتاً منذ زمن و لكن أظن بأن أحداً ما استأجر ابيفورت و جاء إلى سان فرانسيسكو لاغتياله . "

" لن نعرف أي شيء قبل أن نلقي القبض على ابيفورت و نرى إن كان شكنا في محله أم لا . "

ثم توجه صديقي إلى مكتب الضحية مجدداً حيث كان رجال الشرطة يأخذون الضحية إلى سيارة الاسعاف بينما أخذ هو يبحث بين الرفوف عن أي مستند أو وصية تركها الضحية و بعد دقائق من البحث وجد صديقي أخيراً وصية الضحية آليك حيث كانت تنص على أنه يترك أملاكه للسيد سيمون جريجور بعد وفاته و أخذ صديقي الوصية و قام بإخبار السيد جريجور بهذا الأمر و من هنا خطرت في باله فكرة ليرى إن كان النبيل آليك قُتل من أجل أملاكه أم لا و كان قد أعلن بأن الوريث لأملاك آليك بارغون هو سيمون جريجور ، و بهذا عادت ثروة السيد جريجور له و لكن صديقي كان لديه شعور بأن السيد جريجور أيضاً سيتم اغتياله في إحدى الليالي التي نكون بها خارج البيت و كان كل يوم يستطلع و يتفقد المنطقة و يخمن من أي مكان سيطلق القناص النار ، و اليوم الخامس من حادثة اغتيال النبيل بارغون اتفقنا مع السيد جريجور حيث قمنا بتخبأته في قبو بالقصر و قمنا بصنع تمثال مشابه له في المكتب و خرجنا بعد ذلك من القصر و سلكنا طريقاً غير المعتاد للوصول إلى المكان الذي خمنا بأن القناص سيغتال منه ، و بعد نصف ساعة من الانتظار .. جاء القناص و كان المجرم ابيفورت بالفعل و أطلق النار على التمثال و قد حدث كما قال هوروود كان ابيفورت يواجه صعوبة في القنص من العين اليسرى و قد انحرفت البندقية أثناء اطلاقه النار و هذا يعني أن الاصابة في التمثال قد سببت خدشاً كبيراً فيه .. و قد توجهنا مسرعين الى ابيفورت و وجهنا أسلحتنا نحوه و ألقينا القبض عليه ثم هممنا بالعودة إلى القصر و أخرجنا السيد جريجور من مخبأه ..

" ابيفورت بارنابي ، بدأت بالعمل مع العالم سباستيان بيرانس قبل أربعة أشهر و قمت بإنجاز عدة مهام طلبها منك و جئت إلى سان فرانسيسكو بناءاً على طلبه بعد أن رفض النبيل آليك بارغون أن يبيعه القصر و المزرعة و على هذا الأساس قمت بتصفيته ."

نظرتُ أنا و السيد جريجور و حتى المجرم ابيفورت نظرة دهشة و استغراب فقلتُ : " هوروود ! من أين أتيت بهذه المعلومات ؟ إنني معك طول اليوم ! "

" عندما كنت أخرج أتفقد و استطلع المنطقة من أجل حماية السيد جريجور كنت اذهب إلى محققين المنطقة و إلى القسم الجنائي و قد حصلتُ على معلومات بشأن ابيفورت فقد كان تحت المراقبة لفترة و لكنه لاحظ ذلك و استطاع أن يفقد أثره و كان له لقاءات عديدة مع السيد بيرانس مما أثار شكوكي فسباستيان معروفٌ بجرائمه أيضاً ، و كنت قد توجهتُ إلى حارس المزرعة فقد كان هو من يدير أعمال النبيل بارغون و كان قد أخبرني بأن الضحية التقى برجل يدعى سباستيان بيرانس و طلب منه أن يبيعه القصر و المزرعة و لكن سيده رفض ذلك و في نهاية حوارهما قال بيرانس للضحية بأن المزرعة و القصر سيكونون ملكه شاء أم أبا ، و الذي جعلني أتأكد أكثر بأن الجريمة كانت بسبب الأملاك و أن السيد جريجور لا علاقة له بالقضية و استبعدته هو الوصية ، فقد كان الحبر على الورقة ليس جافاً و هذا يعني بأن بارغون كتب الوصية حديثاً و أظن أنه كتبها قبل موته بلحظات و من هنا استنتجتُ بأن السيد جريجور لا علاقة له بالجريمة و إلا ما كان كتب بارغون بالوصية أن أملاكه له لأنه يعلم من قام بتهديده ، و بهذا تأكدت أن الجريمة لها قصة أخرى تماماً و بالطبع المجرم سباستيان مثلنا تماماً قرأ الخبر المتعلق بالنبيل بارغون بالجريدة و هذا ما دعاه للقدوم إلى سان فرانسيسكو و معرفته بالقصر و المزرعة . "

و بهذا انتهت قضية النبيل آليك بارغون حيث أُخذ ابيفورت إلى السجن و عادت أملاك السيد جريجور إليه أما المجرم سباستيان فقد بقي حراً طليقاً لعدم وجود أدلة كافية تدينه و عدنا نحن إلى شارع وول ستريت مع بقاء بعض النقاط مجهولة دون أن نعرف كيف أصبح آليك غنياً و جريجور فقيراً !

انتهى#

2024/04/26 · 2 مشاهدة · 2388 كلمة
Musab Hassan
نادي الروايات - 2024